فصل: قال الثعلبي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قال: {أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء} يعني: بل جعلوا لله شركاء من الأصنام.
ويقال: معناه أجعلوا لله شركاء، والميم صلة.
ثم قال: {خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ} يعني: هل خلق الأوثان خلقًا كما خلق الله فاشتبه عليهم خلق الله تعالى من خلق غيره، فلما ضرب الله مثلًا لآلهتهم سكتوا.
قال الله تعالى: {قُلِ الله خالق كُلّ شَئ} قل يا محمد الله عز وجل خالق جميع الموجودين: {وَهُوَ الواحد القهار} يعني: الذي لا شريك له، القاهر لخلقه، القادر عليهم.
ثم ضرب الله تعالى مثلًا للحق والباطل، لأن العرب كانت عادتهم أنهم يوضحون الكلام بالمثل، وقد أنزل الله تعالى القرآن بلغة العرب، فأوضح لهم الحق من الباطل بالمثل فقال: {أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} يعني: المطر: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} يعني: سال في الوادي الكبير بقدره، وفي الوادي الصغير بقدره، فشبه القرآن بالمطر، وشبه القلوب بالأودية، وشبه الهدى بالسيل: {فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابِيًا} يعني: عاليًا على الماء.
فشبه الزبد بالباطل يعني: احتملته القلوب على قدر أهوائها باطلًا كبيرًا.
فكما أن السيل يجمع كل قدر، كذلك الأهواء تحتمل الباطل، وكما أن الزبد لا وزن له، فكذلك الباطل لا ثواب له.
فذلك قوله: {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاء} يعني: يذهب كما جاء.
ويقال: {جُفَاء} أي سريعًا.
وقال مقاتل: {جُفَاء} أي يابسًا، فلا ينتفع به، ويقذفه السيل.
وقال القتبي: الجفاء ما رمى به الوادي في جنباته.
ويقال: جفأت القدر بزبدها إذا ألقيته عنها: {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ في الأرض} يعني: يبقى الماء الصافي.
فكذلك الإيمان واليقين ينتفع به أهله في الآخرة، كما ينتفع بالماء الصافي في الدنيا.
والباطل، لا ينتفع به لا في الدنيا ولا في الآخرة.
ثم ضرب مثلًا آخر بالذهب والفضة، فقال تعالى: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النار} من الذهب والفضة: {ابتغاء حِلْيَةٍ} يعني: النحاس: {حِلْيَةٍ} تلبسونها.
يخرج منها الخبث، ويبقى الذهب والفضة خالصًا.
ثم ضرب مثلًا آخر فقال: {أَوْ متاع زَبَدٌ مّثْلُهُ} يعني: النحاس، والحديد، والصفر يزول عنها الخبث، ويبقى الصفر والحديد خالصًا، فيتخذ منها المتاع.
فهذه ثلاثة أمثال ضربها الله تعالى في مثل واحد، كما يضمحل هذا الزبد، ويبقى خالص الماء، وخالص الذهب، والفضة، والحديد، والصفر، فكذلك يضمحل الباطل عن أهله.
وكما يمكث الماء في الأرض، ويخرج نباتها، وكما يبقى خالص الذهب والفضة حين يدخلان النار، فكذلك يبقى الحق، وثوابه لصاحبه.
وقال القتبي في قوله: {فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابِيًا} قال: هذا مثل ضربه الله تعالى للحق والباطل.
يقول: الباطل وإن ظهر على في بعض الأحوال وعلا فلان فإن الله سيمحقه، ويبطله، ويجعل العاقبة للحق وأهله، مثل مطر سال في الأودية بقدرها: {فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابِيًا} أي: عاليًا على الماء كما يعلو الباطل تارة على الحق.
ومن جواهر الأرض التي تدخل الكير، توقدون عليها، بمعنى الذهب والفضة للحلية.
{أَوْ متاع} يعني: الشبه، والحديد، والآنك، يكون للآنية له خبث يعلوها مثل زبد الماء.
فأما الزبد، فيذهب جفاء يتعلق بأصول الشجر، وكنبات الوادي، وكذلك خبث الفلز يعني: الجوهر يقذفه، فهذا مثل الباطل.
وأما ما ينفع الناس، وينبت المرعى، فيمكث في الأرض.
فكذلك الصفر من الفلز يبقى صالحًا فهو مثل الحق.
ثم قال: {كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل} على وجه التقديم والتأخير.
يعني: هكذا يضرب الله المثل للحق والباطل.
ويقال: معناه هكذا يبيّن الحق من الباطل: {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ في الأرض} على معنى التقديم والتأخير، وقد ذكرناه من قبل: {كذلك يَضْرِبُ الله الامثال} يعني: يبيّن الله الأشباه، ويوضح الطريق، ويقيم الحجة.
ثم قال: {لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبّهِمُ الحسنى} يعني: للذين أجابوا ربهم بالطاعات في الدنيا، لهم الجنة في الآخرة.
ثم قال: {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ} يعني: لم يجيبوه، ولم يطيعوه في الدنيا: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا في الأرض جَمِيعًا} يوم القيامة: {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} يعني: وضعفه معه: {لاَفْتَدَوْاْ بِهِ} يقول: لفادوا به أنفسهم من العذاب، ولو فادوا به لا يقبل منهم: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوء الحساب} يعني: شديد العقاب.
ويقال: المناقشة في الحساب.
وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال: أتدرون ما سوء الحساب؟ قالوا لا.
قال هو الذنب يحاسب عليه العبد ثم لا يغفر له.
وعن الحسن أنه سئل عن سوء الحساب، وقال: يؤخذ العبد بذنوبه كلها فلا يغفر له منها ذنب.
ثم قال: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي: مصيرهم ومرجعهم إلى جهنم: {وَبِئْسَ المهاد} يعني: الفراش من النار ويقال بئس موضع القرار في النار. اهـ.

.قال الثعلبي في الآيات السابقة:

{المر} قال ابن عباس: معناه: أنا الله أعلم وأرى: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب} يعني تلك الأخبار التي قصصناها عليك آيات التوراة والإنجيل والكتب المتقدّمة: {والذي أُنزِلَ} يعني وهذا القرآن الذي أُنزل: {إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} هو: {الحق} فاعتصم به واعمل بما فيه، فيكون محلّ الذي رفعًا على الابتداء و{الحقّ} خبره، وهذا كلّه معنى قول مجاهد وقتادة، ويجوز أن يكون محلّ {الذي} خفضًا يعني تلك آيات الكتاب وآياتُ الذي أنزل إليك ثم ابتداء الحقّ يعني ذلك الحقّ كقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُوْنَ الْحَقّ} يعني ذلك الحقّ.
وقال ابن عباس: أراد بالكتاب القرآن فيكون معنى الآية على هذا القول: هذه آيات الكتاب يعني القرآن، ثمّ قال: وهذا القرآن الذي أُنزل إليك من ربّك هو الحقّ، قال الفرّاء: وإنْ شئت جعلت {الذي} خفضًا على أنّه نعت الكتاب وإن كانت فيه الواو كما تقول في الكلام: أتانا هذا الحديث عن أبي حفص والفاروق وأنت تريد ابن الخطّاب، قال الشاعر:
أنا الملك القرم وابن الهُمام ** وليث الكتيبة في المزدحم

{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} قال مقاتل: نزلت هذه الآية في مشركي مكّة حين قالوا: إنّ محمّدًا يقول القرآن من تلقاء نفسه، ثمّ بين دلائل ربوبيّته وشواهد قدرته فقال عزّ من قائل: {الله الذي رَفَعَ السماوات} وهذه الآية من جملة مائة وثمانين آية أجوبة لسؤال المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ الربّ الذي تعبده ما فعله وصنيعه؟ وقوله: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} يعني السواري والدعائم واحدها عمود وهو العمد والبناء، يقال: عمود وعمد مثل أديم وأدم، وعمدان، وكذا مثل رسول ورسل، ويجوز أن يكون العمد جمع عماد، ومثل إهاب وأُهب، قال النابغة:
وخيس الجنّ إنّي قد أذنتُ لهم ** يبنُون تدمُر بالصّفاحِ والعَمَد

واختلفوا في معنى الآية فنفى قومٌ العمد أصلا، وقال: رفع السماوات بغير عمد وهو الأقرب الأصوب، وقال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس: يعني ليس من دونها دعامة تدعهما، ولا فوقها علاقة تمسكها، وروى حمّاد بن سملة عن إياس بن معاوية قال: السماء مُقبّبة على الأرض مثل القبر، وقال آخرون: معناه: الله الذي رفع السماوات بعمد ولكن لا ترونها، فأثبتوا العمد ونفوا الرؤية، وقال الفرّاء من تأوّل ذلك فعلى مذهب تقديم العرب الجملة من آخر الكلمة الى أوّلها كقول الشاعر:
إذا أُعجبتك الدهر حال من أمرىً ** فدعه وأوكل حاله واللياليا

تُهين على ما كان عن صالح به ** فان كان فيما لا يرى الناس آليا

معناه: وإن كان فيما يرى الناس لا يألو. وقال الآخر:
ولا أراها تزال ظالمة ** تحدث لي نكبة وتنكرها

معناه: آراها لا تزال ظالمة فقدّم الجحد.
{ثُمَّ استوى عَلَى العرش} علا عليه وقد مضى تفسيره،: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} أي ذلّلها لمنافع خلقه ومصالح عباده: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} أي كلّ واحد منهما يجري الى وقت قُدِّرَ له، وهو فناء الدنيا وقيام الساعة التي عندها تكور الشمس ويُخسف القمر وتنكدر النجوم، وقال ابن عباس: أراد بالأجل المُسمّى درجاتهما ومنازلهما التي ينتهين إليها لا يجاوزانها.
{يُدَبِّرُ الأمر} قال مجاهد: يقضيه وحده: {يُفَصِّلُ الآيات} ينتهيان،: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} لكي توقنوا بوعدكم وتصدّقوه: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض} بسطها،: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} جبالا، واحدتها راسية وهي الثابتة، يقال: إنّما رسيت السفينة، وأرسيت الوتد في الأرض إذا أثبتّها، قال الشاعر:
حبّذا ألقاه سائرين وهامد ** وأشعث أرست الوليدة بالفهر

قال ابن عباس: كان أبو قبيس أوّل جبل وضع على الأرض،: {وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ} صنفين وضربين: {اثنين}: قال أبو عُبيدة يكون الزوج واحدًا واثنين، وهو هاهُنا واحد، قال القتيبي: أراد من كلّ الثمرات لونين حلوًا وحامضًا: {يُغْشِي اليل النهار إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} يستدلّون ويعتبرون: {وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} أبعاض متقاربات متدانيات يقرب بعضها من بعض بالجوار ويختلف بالتفاضل، ومنها عذبة ومنها طيبة ومنها طيبة منبت؛ لأنها بجنته ومنها سبخة لا تنبت.
{وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} رفعها ابن كثير وأبو عمرو عطفًا على الجنات، وكسرها الآخرون عطفًا على الأعناب. والصنوان جمع صنو، وهي النخلات يجمعهن أصل واحد فيكون الأصل واحد، ويتشعب به الرؤس فيصير نخلا، كذا قال المفسرون، قالوا: صنوان مجتمع وغير صنوان متفرق.
قال أهل اللغة: نظيرها في كلام العرب، صنوان واحد، واحدها صنو والصنو المثل وفيه قيل: شمَّ الرجل صنوانه ولا فرق فيهما بين التثنية والجمع إلاّ بالإعراب؛ وذلك أن النون في التثنية مكسورة غير منونة وفي الجمع منونة تجري جريان الإعراب.
خالفوا كلهم على خفض الصاد من صنوان إلاّ أبا عبد الرحمن السلمي فإنه ضم صاده.
{يسقى بِمَاءٍ وَاحِدٍ}. قرأ عاصم وحميد وابن الحسن وابن عامر: بالياء على معنى يسقى ذلك كله بماء واحد.
وقرأ الباقون: بالتاء لقوله جنات.
واختاره أبو عبيد قال: وقال أبو عمرو: مما يصدق التأنيث قوله بعضه على بعض ولم يقل بعضه. {وَنُفَضِّلُ}. قرأ الأعمش وحمزة والكسائي: بالياء ردًا على قوله يدبّر ويفضّل ويغني.
وقرأها الباقون: بالنون بمعنى ونحن نفضل بعضها على بعض في الأُكل.
قال الفارسي: والدفل والحلو والحامض.
قال مجاهد: كمثل صالح بني آدم وخبيثهم أبوهم واحد.
عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلي كرم الله وجهه: «الناس من شجر شتى وأنا وأنت من شجرة واحدة ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} حتى بلغ: {يسقى بِمَاءٍ وَاحِدٍ}».
قال الحسن: هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم، كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة فبسطها وبطحها فصارت الأرض قطعًا متجاورة، فينزل عليها الماء من السماء فيخرج هذه زهرتها وثمرها وشجرها ويخرج قاتها ويحيي موتاها ويخرج هذه سبخها وملحها وخبثها وكلتاهما تسقى بماء واحد.
فلو كان الماء مجًا قيل: إنما هذه من قبل الماء، كذلك الناس خلقوا من آدم فينزل عليهم من السماء تذكرة فترقّ قلوب فتخنع وتخشع، وتقسوا قلوب فتلهو وتقسو وتجفو.
وقال الحسن: والله ما جالس القرآن أحد إلاّ قام من عنده إلاّ في زيادة ونقصان.
قال الله عزّ وجلّ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا} [الإسراء: 82]: {إِنَّ فِي ذلك} الذي ذكرت: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
{وَإِن تَعْجَبْ} يا محمد من تكذيب هؤلاء المشركين واتخاذهم ما لا يضر ولا ينفع آلهةً يعبدونها من دون الله، وهم قراؤ تعبدون من الله وامره وما ضرب الله من الأمثال: {فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} فتعجب أيضًا من قيلهم: {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا} بعد الموت: {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} فيعاد خلقنا جديدًا كما كنا قبل الوجود.
قال الله: {أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ} ْ يوم القيامة: {وأولئك أَصْحَابُ النار} جهنم: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} يعني مشركي مكة: {بالسيئة} بالبلاء والعقوبة: {قَبْلَ الحسنة} الرخاء والعافية، وذلك أنّهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن جاءهم العذاب فاستهزأ منهم بذلك.
وقالوا: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السماء} [الأنفال: 32] الآية: {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات} وقد مضت من قبلهم في الأمم التي عصت ربها وكذبت رسلها، العقوبات المنكلات واحدتها: مَثُلة بفتح الميم وضم التاء مثل صدُقة وصدُقات.